الهوية الغائبة

غير مصنف

كتبت هذه الأسطر ونشرتها فى مدونتى منذ عامين تحت عنوان “هل يكره العرب مصر و المصريين”، ووصلتنى  كثير من التعليقات ، بعضها ودى وكثير منها غير ودي – خاصة من مصريين- تعقيباً عليها. وعلى مر السنوات جدت بعض المواقف التى إستدعت بعض الإضافات و التحديث.

 

ولنبدأ من سبعينات القرن الماضى التى شهدت تغيير إتجاه الدفة فى مصر إلى وجهة عكس التى كانت تسير فيها عندما كانت تستحق عن جدارة أن تسمى قلب العروبة النابض.

أعلنت مصر السادات أنها لا تحترم العرب و لا تقيم لهم وزناً . ثم ولت وجهها شطر البيت الأبيض بإعتباره  القبلة و الملاذ. ثم أعلنت أن الولايات المتحدة هى  القوة الوحيدة الفاعلة (لأن فى يدها 99% من أوراق اللعبة) . ثم قررت أن تتخذ  من الغرب  وإسرائيل و امريكا أولياءاً و قرة أعين و أن تستبدلهم بالعرب الذين كان السادات يصفهم بـ”الأقزام” . 

من الصعب أن يحبنا أحد ونحن نعلن الإستسلام و أننا  فقدنا الثقة فى أنفسنا، ونقترح على الجميع أن يحذو حذونا ويفقدوا  الثقة فى انفسهم.

ثم بدأنا فى رفع شعارات جديدة وغريبة ،  و بدأنا نردد أشياءاً مضحكة مثل “مصر أولاً” ؟!

هل يعنى هذا أن مصلحة مصر تأتى أولاً ؟ تلك بديهية ، ولكن هل من مصلحة مصر أولاً و أخيراً أن تتنكر لعروبتها و أن تتخلى عن دورها العربى ؟

ثم هل يصح أن يكون ذلك شعاراً لدولة فى علاقتها مع محيطها الذى ترتبط به إرتباطاً عضويا ومصيرياً ؟ هل من المعقول أن يحل ذلك الشعار الساذج محل شعارات الوحدة و القومية العربية  التى  حارب تحت رايتها المئات و الآلاف و التى تؤلف القلوب و تستنهض الهمم ؟

 

.. ثم بدأنا نبحث عن هوية جديدة مثل “الهوية الفرعونية” …أى فرعونية؟…ما علاقة مصر القرن الحادى والعشرين بالفراعنة  ملوك مصر القديمة؟

لا أظن أن هناك شعباً متزناً نفسياً و عقلياً- بإستثناء إسرائيل وعصابة الدجل الصهيونية- يمكن أن يدعى أنه ينتسب لحضارة كانت قائمة و إنتهى أمرها تماماً قبل أكثر من 2500 سنة ، ولم يكن أحد يعرف عنها شيئاً يذكر قبل مئتى عام،  خاصة إذا كان – بحكم الموقع و التاريخ- تعرض لما تعرضت له مصر من غزوات و هجرات وقدوم  أقوام و رحيل أقوام عبر آلاف السنين …جعلت منه خلطة عرقية و ثقافية حوت معظم دماء شعوب العالم القديم.

ماذا يعرف الإخوة  الأحباء “الفراعنة” ، الذين يعيشون معنا اليوم، عن الحضارة المصرية القديمة ؟ هل أخذوا بطرف من تاريخ هؤلاء الأجداد ؟ هل يتكلمون لغتهم ؟ هل يأكلون ويشربون و يلبسون و يمشون مثلهم ؟ ، هل يدينون بدينهم و يعبدون آلهتهم ؟

عندما تكتب سيدة أعمال معروفة،  مقالاً شديد اللهجة و ترغى و تزبد ، و تتوعد و تنذر بأنها من الآن فصاعداً ستكون “فرعونية” للغاية(!) ، فما الذى يمكننا إستنتاجه أو البناء عليه فى تلك الحالة ؟

 وعندما تعلن شخصية  معروفة أنها لن تقبل بعد اليوم أن تكون مصر هى الشقيقة الكبرى للدول العربية (!) فما هو المطلوب من مصر و من غيرها بناءاً على ذلك الموقف الجرىء  ؟

شاهدت يافطة على بعض قنوات التلفاز كتب عليها ” مصر فوق الجميع ” بخط كبير و لافت. هل يعرف الإخوة الذين أصابتهم حالة الوطنية المتأزمة ، أن ذلك التعبير “….فوق الجميع” هو تعبير لم يقل به أحد سوى “ألمانيا النازية ” ؟

“ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا”

فقدنا الحب والإحترام عندما إستــقـلنا من الهموم العربية ، وتقلص دور مصر حتى أصبح لا يتعدى – فى أحسن الأحوال – دور الوساطة بين العرب و أعدائهم  بعد أن كنا نقود المواجهة ضد هؤلاء الأعداء.

فقدنا الحب و الإحترام  لأننا هجرنا اللغة العربية وصرنا نشجع العامية بشكل متعمد، و أضحى المصرىون الذين كانوا  قادة الفكر و الثقافة العربية و كان منهم  أساتذة اللغة وأعظم شعرائها و أدبائها وفنانيها ، أضحوا فى كثير من الحالات غارقين فى الإبتذال و السوقية.

كنا رواد العلم والتعليم فأصبحت  شهاداتنا غير معترف بها !  كان لدينا أفضل الأطباء و المهندسين و الفنيين،  فصرنا فى آخر القائمة .

 

ومع كل هذا ، فإنى أزعم أن العرب بصفة عامة لا يكرهون المصريين بصفة خاصة.

 

المصرى، المتحضر ، الواعى و المدرك للأسلوب المناسب للتعامل مع غيره، دون أن يعتنق فكرة مسبقة تجاه الغير، و المنفتح على الأفكار و الثقافات المختلفة ،لا يجد من العرب الآخرين- فى غالب الأحوال – إلا كل حب و تقدير.

عرفت كثير من المصريين ينزعون إلى الإنكفاء على أنفسهم و يفترضون – دون مبرر- أن العرب الآخرين يتربصون بهم الدوائر، و لا يحاولون مد جسور التفاهم و الثقة بينهم و بين غيرهم من الجنسيات العربية ، ويخلقون عداوات بسلوك لا يتسم بالحكمة و التعقل . ومما يزيد الطين بلة أنهم يعتبرون أن عليهم أن يدافعوا عن سلوك ساسة بلدهم و الذى كثيراَ ما يكون غاية فى السوء (و أفضل مثال حالة الإشتراك فى فرض الحصار من قبل مصر على غزة،  والموقف المصرى الضعيف و المتخاذل-فى أحسن الفروض- من الحرب الأمريكية على العراق و الإسرائيلية على لبنان)

وموضوع غزة  و الذى لازال يراوح مكانه ، هو حالة غير مسبوقة من تردى الموقف المصرى من القضايا العربية . فلم يكن يخطر على بال إنسان منذ ثلاث أو أربع عقود  أن يصل الحال بمصر إلى هذه الدرجة من اللاأخلاقية . فعندما يثار ذلك الموضوع و ينبرى بعض المصريين فى الدفاع عن الموقف المصرى ، فلابد أن يستدعى ذلك مشاعر غير ودية من غالبية العرب الذين يشاهدون الوضع المحزن لإخوانهم هناك و لا يجدون أى تفسير للطريقة التى تتصرف بها قيادة مصر سوى حرصها على إرضاء أمريكا و كسب ود الإسرائيليين على حساب أهل غزة التعساء.

 

 

إذا نظرنا لكثير من الرموز التى تمثل مصر فسنجد انها تخلو من الجاذبية و لا تتمتع بحب أغلب المصريين أنفسهم أو تعاطفهم. فكيف نطلب من غير المصريين أن يحبوهم ؟!

 

إن بعض كبار الإعلاميين المصريين الحاليين ، هم أسوأ من يمثل مصر . إن بعض هؤلاء الإعلاميين لا يستطيع أن يقيم لسانه بجملة عربية واحدة صحيحة !

 

كيف نتوقع من الآخرين أن يحبوا المصريين و يحترموهم ، ومؤسسة عريقة كالأزهر على رأسها شخصية لا تتمتع بحب أحد أو إحترامه؟

وحتى تكون الصورة واضحة، فلننظر لحالة مثل حالة جورج بوش الإبن. لقد أساء هذا الرجل – بسبب شخصيته و لغة جسمه العدوانية، و أخطائه المعلوماتية- أبلغ إساءة لإسم وسمعة الولايات المتحدة الأمريكية، ودفع الكثيرين لكرهها ، وحدث العكس تماماً على أيدى أوباما ، حتى ودون تغير يذكر فى السياسة.

إن شخصيات مثل زويل و البرادعى و عمرو موسى ، يعتبرها  أغلب الناس إستثناءاً.

 

ولكن الصورة النمطية (الستريو تايب) الشائعة عن المصريين باتت للأسف صورة تدعو للرثاء.

 

و حتى تكتمل المأساة ، فإن بعض المصريين لا يتورعون أن يتمسحوا بمجد مصر الغابر أيام كانت قوتها الناعمة تصل لكل بيت عربى مع خطب عبد الناصر و أغانى أم كلثوم و عبدالوهاب وعبد الحليم حافظ ، ومقالات هيكل، و أدب طه حسين و العقاد و نجيب محفوظ  ويوسف إدريس..

عندما كانت مصر تدعو لمؤتمرقمة فلا يتخلف أحد، وعندما كانت تقرر مقاطعة حلف بغداد فينهار و يسقط، وعندما وقفت شامخة أمام  أعتى القوى العالمية بعد تاميم قناة السويس ، فوقف  معها الجميع و و إنحنت أعتى القوى لهم إجلالاً و إحتراماً.

 للأسف تلك مصر التى كانت، و لم تعد كذلك. تلك مصر التى كانت  تبنى السد العالى، وتقود حركة التحرر فى العالم العربى و إفريقيا و آسيا …مصر التى أسست وقادت كتلة عدم الإنحياز فى عالم الحرب الباردة . تلك كانت مصر العظيمة و التى كانت تلعب عن جدارة الدور الرائد فى محيطها العربى و العالمى.

مصر التى لم تقبل هزيمة 67 ، و أصر كل صغير و كبير فيها على أنها لا تستحق تلك الهزيمة، وطفقت تبنى جيشها من جديد- وساندها كل العرب ووقفوا معها بالمال و السلاح والرجال-  وأخذت تعد العده لإستئناف الجهاد من أجل إستعادة أرضها و كرامتها ورفعت رأسها و خاضت معركة رأس العش بعد أيام من النكسة و أغرقت  إيلات المدمرة و ضربت إيلات الميناء بعد أسابيع وإشتبكت فى  حرب الإستنزاف الطويلة و القاسية قبل ان تخوض معركة العبور المجيدة ضد عدو الأمة الطبيعى وهو دولة إسرائيل الإستيطانية التوسعية .

تلك كانت  مصر العربية، الشقيقة الكبرى، التى كانت موضع الحب و الإحترام .

أين هى الآن ؟  لقد أصاب أحدهم عندما قال ” …كفى حديثاً عن الشقيقة الكبرى…” فمصر لم تعد أهلاً لتلك الألقاب و لا لأقل منها. 

 لم تعد تستحق مكانة خاصة بين الدول العربية، فقد ضاعت المكانة ، و ذابت الهوية و تهتكت الروابط  و إنفرط العقد.

 أربعون عاماً أوشكت أن تكتمل و نحن نضرب فى صحراء التيه ، فهل آن الآوان أن تزول اللعنة و نعود إلى أمتنا و مبادئنا و نعرف من نحن و إلى أين نحن ذاهبون ؟

 ______________________________________________

 

 

تم إغلاق التعليقات.

أشـرف عاشــــــور © 2024