منذ يومين طالعتنا وسائل الإعلام بزيارة مفاجئة قام بها وزير التعليم لإثنتين من مدارس الوزارة فى ضواحى القاهرة. شاهدنا الوزير يسير و حوله كوكبة من المساعدين ، و رأيناه يعبر عن غضبه و سخطه لما رآه من إنفلات و إهمال و تغيب المسئولين و المدرسين فضلاً عما لاحظه من تفشى القذارة فى المدارس التى زارها.
شاهدنا الوزير يكيل التهم للجميع و يسخر من كل شىء ، ثم يتصل بشخص ما (يبدو انه أحد المسئولين العاملين معه فى الوزارة) و يعطيه تعليمات – بطريقة ساخرة – بنقل موظفى المدرسة إلى مناطق فى الصعيد(!) و يقترح عليه أن يأتى بنفسه ليشاهد “المزبلة” التى يعيش فيها التلاميذ و العاملون.
لابد أن نوجه الشكر للوزير النشيط الذى لم يكتف بالجلوس فى مكتبه و تأتيه التقارير التى غالباً ما تؤكد أن كل شىء على أفضل ما يكون ، ولكن قرر أن يتحرك بنفسه وبدون أى تجهيزات مسبقة لتجميل الصورة و تلميعها ، و يذهب لمعاينة الأوضاع الحقيقية على الطبيعة .
وبالأمس إستضافت مذيعة برنامج العاشرة مساءاً ، مجموعة تمثل الفلاحين على مستوى مصر كلها ، لتحاورهم فى بعض القضايا العامة . حرصت المذيعة النابهة على أن تتابع مبادرة الوزير و حملته العاصفة التى قلبت كيان المدرستين و شتتت جموع العاملين فيهما .
إستطلعت مذيعتنا- فى لفتة ذكية – آراء ضيوفها و طلبت منهم إبدا رأيهم فى زيارة الوزير و ما كان من قوة هجمته و بأسه وكيف قام بإتخاذ قرارات فورية – على الموبايل- بالنقل و الفصل …إلخ.
علق أحد الضيوف ، وهو فلاح من قرية كمشيش، على ما فعله الوزير بما معناه :
” هجوم الوزير و أسلوبه لا يتفقان مع المبادىء التى يجب إرساؤها فى التعامل مع وضع كهذا ، و مشكلة التعليم لا تؤخذ كحالة فردية شاذة تُحل بتوقيع العقوبات الصارمة على بعض العاملين، و بتلك الخفة ، لأن ما عاينه الوزير هو جزء من منظومة خَرِبة، ويجب التعامل معها على هذا الأساس”
كنت جالساً وحدى أشاهد البرنامج التليفزيونى، فلما سمعت ذلك الرجل ، لم أتمالك نفسى و أخذت أصفق له قائلاً “الله ينور عليك”.
ما فعله السيد وزير التعليم – بالرغم ما قد يصاحبه من النوايا الطيبة – يمكن تشبيهه بنزول أحد كبار رجال المرور فجأة لميدان فى القاهرة تشيع فيه الفوضى و يختلط الحابل بالنابل ، فيلقى القبض على بعض السائقين و يأمر بجلدهم ، و ينزل جام غضبه على شرطة المرور و ضباطه العاملين فى المكان فيرسلهم للمحاكمة العسكرية ثم يعود إلى مكتبه الفاخر مزهواً بما حققه من إنتصار و معتقداً أن أحوال المرور آخذة فى التحسن و أن الإنضباط قد ساد .
كنت أتمنى لو أن السيد الوزير قام بتلك الزيارات المفاجئة، دون ضجة إعلامية ، ودون أن يستخدم موبايله لإيقاع الفزع و الرعب فى نفوس الحاضرين ، و عاين المشاكل المزمنة فى مدارسنا ، و إجتمع مع الأساتذة و التلاميذ و أولياء الأمور وناقشهم و إستمع لمشاكلهم لتكوين فكرة صادقة عن أحوال التعليم و ما وصلت إليه.
أعتقد أنه لو كان السيد الوزير يدرك ما يتوجب عليه لبداية عهد جديد فى التعامل مع التعليم ومشاكله، لعقد المؤتمرات و الندوات و إستمع للعاملين والخبراء من رجال التعليم القدامى و الحاليين والمتابعين لهذا الشأن و المهمومين به ، و تعرف على جذور المشاكل و كيف تطورت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، ثم وضع خطة قومية متكاملة تدعمها جميع أجهزة الدولة و يتوفر لها الميزانيات المطلوبة وبما يتناسب مع حجم الكارثة التى نعيشها فى موضوع التعليم من جميع النواحى.
وهناك عدد من الأسئلة التى تطرح نفسها فى هذا السياق.
ما الذى تحقق من تلك العاصفة التى أحدثها السيد الوزير فى هاتين المدرستين ؟
وماذا لو قام الوزير كل يوم بزيارة من هذا النوع و قام بنفى إدارة المدرسة و عدد من المدرسين ؟
وأين سيذهب كل هؤلاء المنفيون من المدراء و المدرسين ؟ وهل هناك ما يضمن أنهم سيكونون أفضل حالاً بعد النفى ؟ وما ذنب المدارس التى سيُنفى إليها هؤلاء المقصرون ؟ و هل يجوز نفيهم إلى أماكن أبعد إذا إستمروا على حالهم من الإهمال ؟ وما هى تلك المدارس النائية التى نعتبرها غير جديرة بجهاز تعليمى محترم ؟ هل هى جزء من مصر ؟
وهل هكذا تبحث المشاكل و يكون التعامل مع بعض الظواهر السلبية التى هى نتاج إرث عشرات السنين من الإهمال و الحلول المؤقتة و دفن الرؤوس فى الرمال و حالة الدولة الرخوة التى نفضت يدها من مسئولياتها منذ زمن بعيد ؟
سيادة الوزير، لا أقول لك أن ما فعلته كان مجرد حماقة ، ولكن أقول أنك إجتهدت و لكنك فى أحسن الأحوال لا تستحق سوى أجر واحد .
أشرف عاشور
asashour@gmail.com