ربما كان يجب علىً أن أكتب هذا الكلام قبل ذلك، لأننا صرنا على بعد ساعات من موعد التصويت على ذلك الدستور المشئوم .
كنت – كما كان كثيرون غيرى- آمل أن الرئيس مرسى و جماعة الإخوان سوف يستجيبون لصوت العقل و الحكمة و يأجلون الإستفتاء حرصاً على وحدة الأمة .. و لكن للأسف أراهم قد ركبهم العناد و أخذتهم العزة بالإثم و أصروا على ما فعلوا و مضوا فى غيهم و طغيانهم يحاولون لى إرادة الأمة و تزييف الوعى و إقرار دستور بعيد كل البعد عن أن يكون دستوراً توافقياً تجتمع عليه إرادة الغالبية العظمى من خيرة أبناء الأمة الذين شاركوا فى لجنة إعداد الدستور و بذلوا جهوداً مضنية للوصول إلى قواسم مشتركة يمكن طرحها على الشعب ليقول كلمته الاخيرة .
لقد حنث الرئيس مرسى بعهده المعلن أنه لن يطرح للإستفتاء إلا دستوراً توافقياً .
لقد مارس الرئيس مرسى قمعاً للقضاء عندما أصدر التعديلات الدستورية فى 21 نوفمبر ليحصن قراراته و يجعلها فوق المساءلة القانونية.
قبل ذلك تعرض معظم أهل الرأى و الفكر و فقهاء الدستورو النخبة السياسية للأمة، لمصادرة حقهم فى أخذ آرائهم فى دستور أمتهم بجدية، ووصل الأمر إلى حد ممارسة الغوغائية فى الإجتماعات للتشويش عليهم و قمعهم حتى أضطروا إلى إعلان مقاطعة اللجنة التعسة عندما وجدوا أن وجودهم لا يثمر عن شىء ذى بال (راجع أحاديث د. وحيد عبد المجيد و د. جابر نصار و غيرهم) .
ثم عندما إنتفضت قوى الثورة ترفض دكتاتورية الرئيس و إصراره على فرض وجهة نظر جماعته على باقى طوائف الشعب، كانت تلك الهجمة البربرية يوم الأربعاء الماضى 5 ديسمبر حينما أرسلت جماعة الإخوان المسلمين مليشياتها المسلحة لتفتك بالشباب المسالم المعتصم أمام قصر الإتحادية و كان ما كان من جرائم القتل و التنكيل و التعذيب والترويع للشباب و الفتيات الأبرياء ، خيرة شباب الأمة، ومحاولة وصمهم بأنهم فلول النظام السابق…إلى آخر ما سمعنا من كذب و إفتراء و تضليل مما لا يصدقه عاقل وقد رأينا جميعاً بأعيننا الجحافل البربرية وهى تغير على خيامهم وتقتاد منهم أعداداً كبيرة كاسرى حرب، فى محاولة لإرهابهم و لإلصاق التهم المزورة بهم. ثم كانت لطمة الحق للظالمين عندما قررت النيابة بقرار شجاع و نزيه الإفراج عن جميع المعتقلين لعدم وجود أدلة إتهام ضدهم .
و يسود وجه الرئيس الذى تمت المأساة برعايته – إن لم تكن بتعليماته- وهو الذى خرج على الملأ ليعلن على الناس أخبار المؤامرات و الفتن التى وصلته أنباؤها، و التى بدا أنه يثق فى دقتها لدرجة إسراعه بالحديث عنها و نشرها قبل إنتهاء التحقيق. يسود وجهه بإعلان النيابة المحترمة الذى أشرنا إليه عاليه و الذى لابد أنه قد وقع عليه و على جماعته كالصاعقة. فياله من موقف مخزى مهين.
لا أريد أن اطيل على القارىء فالوقت ضيق و أتمنى أن تصل هذه الرسالة إلى اكبر عدد ممكن من الناس .
أحب أن استعرض هنا بشكل موجز للغاية مشاكل هذا الدستور و عيوبه و أبين فى ملف آخر عملت عليه لفترة غير قصيرة توضيح و تفصيل للمواد مثار الإشكال.
أولاً من حيث الشكل فأرجو ملاحظة الآتى :
– بالرغم من حكم المحكمة الدستورية بحل اللجنة الأولى بسبب تكوينها من أعضاء معظمهم من مجلسى الشعب و الشورى فإن السادة المهيمنين على الموضوع لم يحرصوا على تجنب ذلك العوار الدستورى فى تشكيل اللجنة الثانية التى كتبت المسودة التى نحن بصددها فإذا باللجنة الثانية تعج بأعضاء من المجلسين كسابقتها مع بعض التعديلات.
– بالرغم من أن القواعد التى جرى تشكيل اللجنة على أساسها تحتم تفرغ الأعضاء لعمل اللجنة و عدم شغلهم لوظائف أو اعمال أخرى خلال فترة الإعداد لمسودة الدستور فإن تلك القاعدة الهامة ضُرب بها عرض الحائط و كأنها كتبت لأناس يكتبون دستور بلد آخر، و أيضاً عجت اللجنة بشخصيات تمارس أعمالاً أخرى خاصة مسئولين بالدولة وموظفين بالجهاز التنفيذى (الحكومة) و تحت ولاية الرئيس الحالى وهو ما جعل هؤلاء الأعضاء طوع بنان الحاكم و أهله و عشيرته.
– خلال الاسابيع الأخيرة لعمل تأسيسية الدستور إنسحب عدد كبير من أهم الشخصيات السياسية و القانونية من عملهم باللجنة بعد أن يأسوا من قدرتهم على التعاون مع باقى الأعضاء الذين تحركهم خيوط خارج اللجنة معروف مصادرها . و شملت القائمة مجموعة من ألمع الأسماء ، فيما يلى بعضاً منها :
عمرو حمزاوى – سعد عبود – منى مكرم عبيد- محمد أبو الغار- عبد الغفار شكر- أحمد حرارة – إيهاب الخراط- رباب المهدى – زياد أحمد بهاء الدين – عماد جاد -حازم الببلاوى- سامح عاشور- السيد البدوى- د. أحمد السيد النجار- سمير مرقس- د. أحمد سعيد – محمد عبد العليم داود – مرجريت عازر- د. جابر نصار – د. وحيد عبد المجيد… وغيرهم، بالإضافة لممثلى الكنائس المصرية.
هل الأسماء السابقة تضم أسماءاً لشباب متهور أو مندفع ؟ إن معظمهم كهول و شيوخ محترمون و هم مجموعة كانت قادرة وحدها على صياغة دستوراً يليق بمصر كما يجب أن تكتب الدساتير لولا ما تعرضوا له من متاعب و تجاهل على أيدى غلاة الأخوان و السلفيين و من حالفهم.
– شاهدنا جميعاً كيف تم التصويت على مواد الدستور فى تلك الليلة العجيبة . قال بعض من يدافع عن عمل اللجنة أن الدستور نوقش لمدة 5 شهور و لم تكن هناك حاجة لمزيد من المناقشات .
أيها الإخوة كلنا نذكر النقاش المطول الذى دار حول كيفية إقرار مواد الدستور و االتصويت عليها.
كلنا نذكر الحديث عن تحقيق نسب معينة تعتبر معبرة عن التوافق ، و ما يعمل به عند عدم تحقيقها و من ذلك تأجيل التصويت عليها لمدة معينة لإعادة الدراسة و الإقناع…(أعتقد 48 ساعة على الأقل) قبل إعادة طرحها للتصويت للمرة الثانية و فى تلك الحالة يمكن قبول نسب أقل لإعتماد المادة و إقرارها. أين هذا كله…؟ و قد رأينا بأعيننا عندما حدثت معارضة من عدد كبير نسبياً من الأعضاء لمادة هامة (تخص طريقة تشكيل مجلس الوزراء و علاقة ذلك برئيس الجمهورية. بقدر ما أذكر) و شاهدنا بأعيننا كيف هدد المستشار حسام الغريانى بتأخير التصويت على المادة المشار إليها لمدة 48 ساعة حسب ما تنص اللائحة و طلب من الأعضاء إعادة النظر فى الموضوع على ضوء ذلك ، فلما أعيد التصويت إنخفض عدد المعترضين من 18 إلى 4 و جرى الإسراع بإقرار المادة موضع الخلاف و الإنتقال لغيرها.
عندما يقال أنه قد جرى سلق الدستور أو أنه قد تم إقراره بليل فإن ذلك صحيح تماماً.
وهناك مسائل أخرى من الناحية الشكلية و لكن فلنختصر لضيق الوقت.
ثانياً من حيث الموضوع . الدستور ملىء بالعيوب و المثالب و الثغرات و “الألغام” و التى ربما قد تكون قد زرعت عن قصد لإستغلالها بعد ذلك عندما تحين الفرصة .
لمن يريد أن يعرف فى عجالة المشاكل الرئيسية و التى سندفع ثمنها غالياً إذا تم إقرار هذا الدستور المعيب ، أوجز فيما يلى تلك المشاكل دون الحرص على ذكر النصوص و أرقام المواد و التى نتعرض لها بالتفصيل فى ملف آخر.
1- هذا الدستور لم يقلص أى من صلاحيات رئيس الجمهورية التى كانت فى دستور 71 بل ربما يزيد عليها . و مع إعترافى بصعوبة عقد مقارنة دقيقة و كاملة للوثيقتين حالياً، إلأ أنى أكتفى برأى خبير هام و قدير وهو الدكتور جابر نصار و يمكن الرجوع للرابط الآتى :
https://www.youtube.com/watch?v=Jdg9qDjaccs
هذا الدستور يصنع و يكرس دكتاتوراً. قولاً واحداً .
2- هذا الدستور يفتح علينا أبواب جهنم بإضافة المادة 219 و التى أعادت تعريف “مبادىء الشريعة الإسلامية” بشكل سيجعل من السهل على المتطرفين إقتراح القوانين السالبة للحريات و الهادفة لإعادة مصر إلى العصور الوسطى . لا أقول هذا من فراغ فأنا ممن قرأوا كثيراً فى فقه “أهل السنة و الجماعة” و أحكام الشريعة و من أخطر ما يمكن أن يقال أننا ملزمون بفهم و تطبيق الإسلام بالشكل الذى إجتمع عليه جمهور الأئمة و العلماء من مئات السنين (وهو ما يطلبه جمهور السلفيين بلا أى مواربة) . أحكام الشريعة كما وردت فى كتب الأولين كلها مسائل خلافية و هى فى جزء كبير منها مستنبطة من أحاديث الآحاد (ومنها الكثير من الأحاديث الصحيحة) و لكن فهمها لابد أن يسترشد بسياق الحياة العصرية و محدداتها. المتطرفون مثل أسامة بن لادن و الظواهرى إستنتجوا مما عرفوه من فقه و احكام ما أوصلهم إلى ما شهدناه و لازلنا نشهده من كوارث لا يقبلها عقل و لا دين.
أنظروا لرجل معتوه مثل حازم أبو إسماعيل و جماعته لتعرفوا ماذا ينتظرنا.
3- للأسف هذا الدستور يعطى القوات المسلحة وضعاً خطيراً و يحرم ممثلى الشعب(خاصة المعارضة) من الإطلاع على ميزانيتها و مناقشتها و هى من اخطر المسائل و التى علينا التصدى لها و سبر أغوارها و إلا فكيف نطمح إلى دولة يحكمها نظام مدنى حديث على خلاف الأنظمة العسكرية التى حكمتنا سابقاً .
4- الدستور لا يعطينا ضمانات كافية للحريات و من أهمها حرية وسائل الإعلام و التى يجعل لها مجالس تنظم عملها و الرئيس هو الذى يختار من يرأسها و بالتالى فهو بلا شك سيكون المتحكم الأول و الأخير فى كل ما يتعلق بها.
5- بهذا الدستور نفقد كل أمل فى وجود هيئات رقابية مستقلة يمكنها أن تحاسب الرئيس و الحكومة على أعمالها و تصرفاتها. لماذا ؟ لأن تلك الهيئات ستكون تحت رعاية السيد الرئيس الذى سيتولى تعيين من يرأسها !!
6- هذا الدستور غير منحاز للطبقات الكادحة و الفقيرة (وذلك يشمل معظم الطبقة المتوسطة) . تكثر فيه العبارات الإنشائية التى تعبر النوايا الطيبة تجاه المحتاجين و المستضعفين و لكنه مكتوب بفكر أن على الأغنياء واجب الإحسان إلى الفقراء. لايحمى و لا يثبت حقوقاً أساسية هامة. وعلى سبيل المثال فإن حق الرعاية الصحية جعله مجانياً فقط “لغير القادرين” !! عندما يكون ذلك نصاً دستورياً فهو أمر خطير. على من يطلب الرعاية الصحية من أبناء محدودى الدخل الذين ينحتون فى الصخر لتوفير قوتهم و قوت أولادهم أن يثبت انه “غير قادر”.. أى مذلة و أى مهانة .
7- لا أعلم من أى شيطان إستوحى كتبة هذا الدستور مواداً لم ترد فى أى من الدساتير التى عرفتها مصر فى تاريخها و ربما لم تشهدها دولاً أخرى تحترم حقوق شعبها فى الحرية و الكرامة. لأول مرة يتيح هذا الدستور البائس للدولة حق حل النقابات المهنية ! وهنا نلاحظ فإن الحل ليس لمجلس إدارة النقابة …لا بل حل النقابة كلها عن بكرة أبيها لتصبح كأنها لم تكن. هل هذا معقول ؟ إن هذه السقطة كافية وحدها لرفض ذلك الدستور المشين.
بالإضافة لما سبق فإن بالدستور المطروح للإستفتاء الكثير من المواد الأخرى و الخطيرة و التى تتعلق بالحريات و القضاء و المحكمة الدستورية و غيرها مما سنتصدى له بالتفصيل فى موضع آخر.