القط النبيل

غير مصنف

القط النبيل
كانوا خمسة جاءوا فى بطن واحدة ..و لدتهم أمهم معاً أو بالأحرى على التوالى، فى ليلة واحدة. كان العدد أكثر قليلاً من المعتاد فى مثل هذه الحالات.. أربعة من الذكور و أنثى واحدة أو ثلاثة من الذكور و إثنتين من الإناث، لا أذكر، و الله أعلم بعدتهم. لم يكن صاحبنا أجمل إخوته و لا أنشطهم و لا أكثرهم جاذبية لكنه كان فريداً بين إخوته و إمتاز عنهم بصفات جعلته محط الدهشة و الإعجاب .فى أيامهم الاولى لم يزاحم إخوته على ثدى أمهم بل وربما كان يتراجع قليلاً ليترك المجال لغيره من إخوته الشرهين.
و عندما إنتهت مرحلة الرضاع ، و بدأ الإخوة يتناولون طعامهم بأنفسهم و إبتعدوا عن أثداء الأم كان لصاحبنا أيضاً شأناً آخراً غير باقى إخوته إسترعى إنتباه الأسرة. إعتاد الصغار بمجرد أن يوضع الطعام أن يلقوا بأنفسهم فى الإناء يتخاطفون ما فيه فى نهم شديد و كل واحد منهم يزاحم الآخرين و يحاول أن يدفع بهم بعيداً ليفوز بأكبر نصيب من الوجبة حتى يأتوا على كل الطعام و لا يتركون شيئاً. الأربعة كلهم يفعلون نفس الشىء عدا صاحبنا الذى كان يقف بعيداً يرقب ذلك المنظر من بعد كما لو أن الأمر لا يعنيه أو كأن ذلك التكالب على الطعام شيئاً لا يليق به. أضطرت الاسرة أن تجعل له إناءاً فى مكان بعيد لا يصل إليه إخوته . فإذا وضعوا له إناءه الخاص نظر إليه بهدوء نظرة غير المهتم و ربما أعرض عنه شيئاً قليلاً ثم عاد إليه فى هدوء و رفق، فأكل، وما كاد يفعل .
من المألوف تكرر تلك المشادات بين الصغار و التى يختلط فيها اللعب و اللهو بالعراك و التى كان صاحبنا طرفاً فى بعضها و لوحظ عليه مرة تفوقاً و قوة شكيمة.فى ذلك الوقت لم تكن معالم شخصيات مجموعة الإخوة قد إتضحت و تباينت. ذهب البعض إلى أن هذا الصغير ميال للعنف و الشراسة فأطلق عليه-بطريق الخطأ- إسماً لأحد الأشقياء .. سميناه “دلنجر” (جون دلنجر أحد عتاة المجرمين. عاش فى شيكاجو بالولايات المتحدة و أشتهر بجرائم سرقة البنوك و غيرها فى عشرينات و ثلاثينات القرن الماضى) . تبين بعد ذلك كم كان صاحبنا مسالماً و أبعد ما يكون عن العدوانية و العنف لكن الإسم كان قد إلتصق به و أخذ طابعاً رسمياً و لم يكن من السهل تغييره.
كبر الإخوة و بدأت العلاقات بينهم تتضح و تتشكل وفقاً لشخصياتهم.
بقى فى المنزل ثلاثة هو و أنثى فائقة الجمال سميت “فتكات” و أخ ثالث لم يكن يقل جمالاً عنها سموه –أيضا بطريق الخطأ – “بيتهوفن” ظناً منهم أنه رزين و محترم وإن تبين بعد ذلك أنه أبعد ما يكون عن تلك الصفات و انه عنيف و مولع بالسرقة و التعدى على الآخرين.
نشأت بين دلنجر و فتكات علاقة صداقة و تقارب . كانت فتكات تقابل نظرات “دلنجر” و مبادراته بإرتياح و كان التآلف بينهما واضحاً . حاول “بيتهوفن” التقرب من “فتكات” و التحرش بها و لكن محاولاته باءت بالفشل وكانت تلقى نفوراً و إعراضاً من الحسناء فتكات. بات واضحاً أنها تؤثر عليه دلينجر المهذب الرقيق و الذى لم يسعى لفرض نفسه عليها كما حاول أن يفعل غيره. كانت تقترب منه فى مناجاة و حب فيقبل عليها هو و يلعقها بلسانه و يداعبها فى لطف و رقة و تمضى الأمور فى مسارها الطبيعى.
فى إحدى الليال سُمعت أصوات و جلبة آتية من ناحية المطبخ. ذهبنا لإستطلاع الامر فوجدنا “بيتهوفن” و”فتكات” متلبسين بجريمة سرقة و إغتصاب دجاجة محمرة ، إنقضا عليها وأخذا ينهشانها على أرض المطبخ. تبين أن “بيتهوفن”، و على الأرجح بمباركة “فتكات” و تشجيعها، قد تمكن من فتح باب الفرن الصغير الذى كانت الدجاجة محفوظة فيه بعد الإنتهاء من طهيها ، و تمكنا من سحبها إلى الأرض حيث أخذا يلتهمانها فى شراهة و نهم . بدا لنا بعد وقوع تلك الجريمة الشنعاء أن “بتهوفن” و “فتكات” لا يؤمن جانبهما وخاصة أنه مع نمو أجسامهما و زيادة قوتهما فإن جرائمهما لابد أن تزيد و يستفحل الأمر. كان لابد من التخفف من بعض الحمل الذى تتحمله الاسرة فى رعاية كل هؤلاء الصغار . و بالفعل ذهب “بيتهوفن” لأحد الاسر الصديقة و فتكات لأخرى و إجتمع رأى الاسرة على الإحتفاظ بدلنجر لدماثة أخلاقه ونزاهته و ترفعه عن أعمال السرقة و البلطجة.
لم تمض فترة كبيرة بعد تلك الأحداث عندما إكتملت إستعدادات أسرتنا للسفر و الهجرة لكندا كما كانت الخطة التى أُعد لها من سنوات. بالطبع لم يكن هناك مكان لدلنجر فى تلك الرحلة المعقدة ، فتركناه فى مكان أمين مع أصدقاء لنا حيث كنت مرتبطاً بأعمال لابد من العودة لمتابعتها.
بعد حوالى السنة ، إكتمل نمو “دلنجر” و صار يافعاً و بدأ يلح فى تلبية نداء الطبيعة . كان لابد من عمل شىء ما . إما توفير الزوجة الصالحة التى تليق به أو معالجة الموضوع جراحياً لتهدئة العاطفة المشبوبة و إراحته من ضغط الحاجة إلى الجماع . و للأسف كان الحل الثانى هو المتاح فى ظل الظروف التى كانت تسمح بالكاد بتوفير الرعاية له ناهيك عن وضع ينتهى بالإنجاب و ظهور مجموعة جديدة من الصغار يحتاجون للعناية و الرعاية. فقد صاحبنا ذكورته و لكنه إحتفظ بصفاته النبيلة و التى جعلته مختلفاً عن غيره من أبناء و بنات جنسه و كفلت له إحترام كل من عرفه.
تكررت رحلاتى جيئة وذهاباً بين كندا و الشرق الاوسط و فى كل مرة أضطر لترك دلنجر وحده مع زملائى بالعمل . فى كل مرة أسافر و أتركه فى مكاتب الشركة أعود فأجده و قد بدت عليه إمارات المعاناة من الوحدة . صحيح أنه تخلص من بعض المشاكل الجسمانية و النفسية بعد الجراحة و لكنه مثل غيره من بنى جنسه يحتاج إلى من يعطف عليه و يؤنسه و يمسح على رأسه و ظهره .
لم يكن دلنجر ليقبل أن يأكل طعام المنزل أو فضلات مما نأكل. بدأت فى شراء علب الطعام الخاص به . فى البداية كنت احضر له علب طعام من لحم الدجاج أو اللحوم البقرية فكان يعافها و لا يأكلها مهما إشتد به الجوع . تبينت بعد فترة قصيرة انه لا يحب سوى منتجات الأسماك فصرت لا أقدم له سواها . و حتى علب لحوم الاسماك يجب أن تكون حذراً فى إنتقائها و لابد من تغييرها من وقت لآخر حتى لا يصيبه الملل. كما لاحظت أن هناك أنواعاً بعينها تلقى قبولاً لديه أكثر من غيرها فصرت أحضرها له.
أعود للمنزل فى نهاية اليوم ، و ما أن أدخل البيت حتى يقبل علىَ فى إهتمام و يتقافز بين أقدامى و يتابع حركاتى و ينظر إلي وهو يحدث صيحات متباينة أحتار فى تفسيرها . فى بداية الامر ظننت أنه ينتظر طعامه و يلح فى طلبه، فأقدمه له. ولكن على غير المتوقع لم يكن يسارع بالأكل و ينظر إلي إناء الطعام فى تردد ودون إهتمام . فإذا تحركت بعيداً سار ورائى تاركاً الطعام كما هو.. فإذا جلست قفز علي و أخذ يتمسح بى ثم يقف على صدرى موجهاً نظره إلى عينى و يبدأ فى الضغط على صدرى بإحدى قدميه الصغيرتين …ثم بالقدم الأخرى فى حركة تبادلية بين القدمين ثم و فى رفق يدفع برأسه فى وجهى دفعات متتالية .. كنت أشعر أنه يحاول عناقى و تقبيلى . كان ذلك مدهشاً حقاً. بدا لو أنه يريد أن يؤكد لى أن ما يجمعنا عاطفة و حب أكثر من أى شىء آخر.
أثناء فترات غيابى لم يقصر زملاء العمل فى محاولة توفير حاجيات دلنجر الأساسية من مأكل و مشرب و لكن كان من الصعب أن أطلب منهم أكثر من ذلك . حدثنى أحدهم أنه كلما غادر مكانه لمهمة أو عمل يعود فيجد “دلنجر” وقد راق له الجلوس في مقعده. حكى لى ذلك الزميل أنه كان يضطر لإزاحته ليجلس لكن دلنجر كان يتحرك فى ضيق بالغ و يحدث من الأصوات ما يؤكد إنزعاجه من ذلك التصرف المجافى لأصول اللياقة ..!
لم يعد ذلك الحال مقبولاً.
و بعد تفكير و تشاور مع زوجتى قررت أن أعد العدة لسفر دلنجر هو الآخر إلى بلد المهجر و العالم الجديد لعله يجد هناك ما يحتاجه من دفىء و حنان فى جو الأسرة التى ولد و نشأ فيها.
صحبته إلى العيادة البيطرية لأخذ اللقاحات و التحصينات اللازمة . إستخرجت له الشهادات الرسمية التى تثبت تطعيمه و تؤكد سلامته و خلوه من الامراض.
أعددت له قفصاً خاصاً لنقل الحيوانات الصغيرة . إشتريت له تذكرة السفر كمرافق لى . وضعته فى قفصه و ركبنا السيارة مع صديق أوصلنا إلى المطار. كان يصدر أصواتاً من أغرب ما سمعت ..هى نوع من التعبير عن الألم و الإحتجاج الشديد و طلب النجدة و الخلاص…صيحات قوية شعرت أنها تصدر من حبال صوتية خاصة تختلف عن تلك التى يستخدمها فى الظروف العادية ..و كانت مؤلمة. لم يكن يطيق تقييد حريته فى ذلك الحيز المحدود، و لم يكن عندى وسيلة لإقناعه بأنه علينا تحمل بعض المشاق فى سبيل الوصول إلى مكان سوف يكون بالتأكيد مناسباً أكثر لحياته .
ثلاث رحلات بالطائرة كان علينا أن نستقلها لنصل للمدينة الصغيرة التى نعيش فيها . و وصلنا فى نهاية المطاف و لقى دلنجر و أوراقه و شهاداته الطبية قبولاً حسنا من سلطات المطار الكندية . كان كل شىء نموذجياً . فحصوه فحصاً طبياً ظاهرياً سريعاً قبل أن يهنئونى بسلامة الوصول و يعلنون ترحيبهم به فى العالم الجديد.
ينتقل دلنجر بحذر لحياته الجديدة. تغيير المكان يصاحبه نوع من التوتر الشديد مهما حاولنا مؤانسته و التخفيف عنه. يقضى أيامه الأولى مختفياً تماماً عن الأنظار فى حالة فزع و خوف و هروب من كل شىء. بعد مرور أيام التوتر الأولى بدأ فى التعرف على المكان و ممارسة حياته العادية و إستعادة نشاطه و حيويته.
قضى دلنجر سنوات سعيدة مع زوجتى و أولادى و كان هو العضو الوحيد فى الاسرة الذى لم يغادر كندا منذ وصوله فى منتصف التسعينات.
فرض دلنجر إحترامه على الجميع و أحبه كل من إقترب منه و عرفه.
لم يحاول يوماً أن يسرق أو يخطف طعاماً مهما كان نوعه . كانت صينية السمك تبيت فى مكانها بالمطبخ آمنة مطمئنة لا خوف عليها من أى محاولة إعتداء .
نوع واحد من الطعام كانت تجتذبه رائحته فيقترب منه على إستحياء ويبدى رغبته فيه . التونة.
أحياناً يفاجئنا بالقفز على مائدة الطعام ونحن جالسين حولها و يتجول بين الأطباق فإذا و جد زيتوناً كان يحلو له أن يأخذ واحدة و يلعق ما عليها من زيت ثم يهبط بها إلى الأرض و يداعبها و يقذفها و يعدو ورائها كما لو كانت كرة و لا يأكلها .
فى المرات النادرة التى كان يقفز فيها على مائدة الطعام و يبحث عن زيتونته المفضلة ليلعب بها و يلعقها ، تحاول زوجتى أو أحد ابنائى إبعاده ، فيستدير و ينظر إلينا فى إستغراب و يموء فى أسى و كأنه يقول ” مالكم..هل أنا من يبعد عن مائدتكم بهذا الأسلوب … انا لا أسرق شيئاً… و لا يوجد هنا شىء يثير إهتمامى …إنى فقط أبحث عن زيتونتى و سأغادر فى هدوء”
يحلو له أن يلعق الماء من نفس الأكواب التى نشرب منها أو يقف على حافة حوض المياه و يشرب من الماء الدافق من الصنبور .
تمر السنوات و يكبر دلنجر و يصل عمره إلى قرابة الثمانية عشر عاماً . ذلك يعادل عمر إنسان فى الثمانين أو يزيد. بدأت تظهر عليه أعراض الشيخوخة و أمراضها. تؤكد لى زوجتى أن سمعه قد ضعف كثيراً بدليل أنه عندما يطلب شيئاً يحدث أصواتاً شديدة الإرتفاع بشكل ملحوظ.
فى الأشهر الأخيرة إحتجنا لزيارة الطبيب أكثر من مرة لعلاجه . فقد الكثير من حيويته و خفته عندما كان طفلاً صغيراً ثم شاباً رائعاً بعد ذلك.
أبدت الطبيبة تخوفها من ضعف فى وظائف كليتيه و أجرت له بعض الفحوص و التحاليل ووصفت له دواءاً لعلاج إلتهاب شديد أصاب لثته و أسنانه قبل أن تجرى له جراحة لإستئصال الأسنان التالفة. ساورها أيضاً القلق من أن يكون بصره قد ضعف و سألتنا هل يصطدم بالأشياء أثناء سيره أو ما شابه . الحمد لله ذلك لم يحدث حتى الآن. لقد كان من عام او إثنين فقط يقضى بعض ساعات نومه مسترخياً على حافة سور سلم داخلى فى المنزل فى توازن مثير للدهشة…
أجد صعوبة فى تقبل فكرة أنه صار مسناً لهذه الدرجة . يقضى دلنجر سنواته الأخيرة فى منزلنا محاطاً بكل رعاية و تكريم و الكل يتابع حالته الصحية و النفسية ويسأل عنه و ينتاب القلق كل أفراد الإسرة إذا ألم به عارض .
و مع ضعف الشيخوخة و أمراضها يواتيه احياناً شىء من الحيوية و النشاط فيقفز على صدر أحدنا و يقبله بطريقته الخاصة كما كان يفعل صغيراً، أو يجلس على ظهر مقعد زوجتى و يلعق شعرها كما أحب أن يفعل دائماً، ثم بعد قليل يذهب وينتحى جانباً ليرقد فى هدوء فى أحد الأماكن المفضلة لديه.
أتأمل صورة تجمعه هو و إخوته بعد أيام قليلة من ولادتهم و قد تكالبوا يرضعون من أمهم ، وعندما لا أستطيع التعرف عليه لتشابههم لا يجد إبنى أى صعوبة فى تحديد شخصيته من علامات فى ذيله. بدا لى ذلك معقولاً لأنه كما عرفناه دائماً كان يقف متاخراً عن باقى الإخوة و يكاد لا يصل لثدى أمه . ألم يكن ذلك ما جعلنا نعطف عليه و نتعلق به و نحترمه من البداية ..

كانوا خمسة جاءوا فى بطن واحدة ..و لدتهم أمهم معاً أو بالأحرى على التوالى، فى ليلة واحدة. كان العدد أكثر قليلاً من المعتاد فى مثل هذه الحالات.. أربعة من الذكور و أنثى واحدة أو ثلاثة من الذكور و إثنتين من الإناث، لا أذكر، و الله أعلم بعدتهم. لم يكن صاحبنا أجمل إخوته و لا أنشطهم و لا أكثرهم جاذبية لكنه كان فريداً بين إخوته و إمتاز عنهم بصفات جعلته محط الدهشة و الإعجاب .فى أيامهم الاولى لم يزاحم إخوته على ثدى أمهم بل وربما كان يتراجع قليلاً ليترك المجال لغيره من إخوته الشرهين.
و عندما إنتهت مرحلة الرضاع ، و بدأ الإخوة يتناولون طعامهم بأنفسهم و إبتعدوا عن أثداء الأم كان لصاحبنا أيضاً شأناً آخراً غير باقى إخوته إسترعى إنتباه الأسرة. إعتاد الصغار بمجرد أن يوضع الطعام أن يلقوا بأنفسهم فى الإناء يتخاطفون ما فيه فى نهم شديد و كل واحد منهم يزاحم الآخرين و يحاول أن يدفع بهم بعيداً ليفوز بأكبر نصيب من الوجبة حتى يأتوا على كل الطعام و لا يتركون شيئاً. الأربعة كلهم يفعلون نفس الشىء عدا صاحبنا الذى كان يقف بعيداً يرقب ذلك المنظر من بعد كما لو أن الأمر لا يعنيه أو كأن ذلك التكالب على الطعام شيئاً لا يليق به. أضطرت الاسرة أن تجعل له إناءاً فى مكان بعيد لا يصل إليه إخوته . فإذا وضعوا له إناءه الخاص نظر إليه بهدوء نظرة غير المهتم و ربما أعرض عنه شيئاً قليلاً ثم عاد إليه فى هدوء و رفق، فأكل، وما كاد يفعل .
من المألوف تكرر تلك المشادات بين الصغار و التى يختلط فيها اللعب و اللهو بالعراك و التى كان صاحبنا طرفاً فى بعضها و لوحظ عليه مرة تفوقاً و قوة شكيمة.فى ذلك الوقت لم تكن معالم شخصيات مجموعة الإخوة قد إتضحت و تباينت. ذهب البعض إلى أن هذا الصغير ميال للعنف و الشراسة فأطلق عليه-بطريق الخطأ- إسماً لأحد الأشقياء .. سميناه “دلنجر” (جون دلنجر أحد عتاة المجرمين. عاش فى شيكاجو بالولايات المتحدة و أشتهر بجرائم سرقة البنوك و غيرها فى عشرينات و ثلاثينات القرن الماضى) . تبين بعد ذلك كم كان صاحبنا مسالماً و أبعد ما يكون عن العدوانية و العنف لكن الإسم كان قد إلتصق به و أخذ طابعاً رسمياً و لم يكن من السهل تغييره.
كبر الإخوة و بدأت العلاقات بينهم تتضح و تتشكل وفقاً لشخصياتهم.
بقى فى المنزل ثلاثة هو و أنثى فائقة الجمال سميت “فتكات” و أخ ثالث لم يكن يقل جمالاً عنها سموه –أيضا بطريق الخطأ – “بيتهوفن” ظناً منهم أنه رزين و محترم وإن تبين بعد ذلك أنه أبعد ما يكون عن تلك الصفات و انه عنيف و مولع بالسرقة و التعدى على الآخرين.
نشأت بين دلنجر و فتكات علاقة صداقة و تقارب . كانت فتكات تقابل نظرات “دلنجر” و مبادراته بإرتياح و كان التآلف بينهما واضحاً . حاول “بيتهوفن” التقرب من “فتكات” و التحرش بها و لكن محاولاته باءت بالفشل وكانت تلقى نفوراً و إعراضاً من الحسناء فتكات. بات واضحاً أنها تؤثر عليه دلينجر المهذب الرقيق و الذى لم يسعى لفرض نفسه عليها كما حاول أن يفعل غيره. كانت تقترب منه فى مناجاة و حب فيقبل عليها هو و يلعقها بلسانه و يداعبها فى لطف و رقة و تمضى الأمور فى مسارها الطبيعى.
فى إحدى الليال سُمعت أصوات و جلبة آتية من ناحية المطبخ. ذهبنا لإستطلاع الامر فوجدنا “بيتهوفن” و”فتكات” متلبسين بجريمة سرقة و إغتصاب دجاجة محمرة ، إنقضا عليها وأخذا ينهشانها على أرض المطبخ. تبين أن “بيتهوفن”، و على الأرجح بمباركة “فتكات” و تشجيعها، قد تمكن من فتح باب الفرن الصغير الذى كانت الدجاجة محفوظة فيه بعد الإنتهاء من طهيها ، و تمكنا من سحبها إلى الأرض حيث أخذا يلتهمانها فى شراهة و نهم . بدا لنا بعد وقوع تلك الجريمة الشنعاء أن “بتهوفن” و “فتكات” لا يؤمن جانبهما وخاصة أنه مع نمو أجسامهما و زيادة قوتهما فإن جرائمهما لابد أن تزيد و يستفحل الأمر. كان لابد من التخفف من بعض الحمل الذى تتحمله الاسرة فى رعاية كل هؤلاء الصغار . و بالفعل ذهب “بيتهوفن” لأحد الاسر الصديقة و فتكات لأخرى و إجتمع رأى الاسرة على الإحتفاظ بدلنجر لدماثة أخلاقه ونزاهته و ترفعه عن أعمال السرقة و البلطجة.
لم تمض فترة كبيرة بعد تلك الأحداث عندما إكتملت إستعدادات أسرتنا للسفر و الهجرة لكندا كما كانت الخطة التى أُعد لها من سنوات. بالطبع لم يكن هناك مكان لدلنجر فى تلك الرحلة المعقدة ، فتركناه فى مكان أمين مع أصدقاء لنا حيث كنت مرتبطاً بأعمال لابد من العودة لمتابعتها.
بعد حوالى السنة ، إكتمل نمو “دلنجر” و صار يافعاً و بدأ يلح فى تلبية نداء الطبيعة . كان لابد من عمل شىء ما . إما توفير الزوجة الصالحة التى تليق به أو معالجة الموضوع جراحياً لتهدئة العاطفة المشبوبة و إراحته من ضغط الحاجة إلى الجماع . و للأسف كان الحل الثانى هو المتاح فى ظل الظروف التى كانت تسمح بالكاد بتوفير الرعاية له ناهيك عن وضع ينتهى بالإنجاب و ظهور مجموعة جديدة من الصغار يحتاجون للعناية و الرعاية. فقد صاحبنا ذكورته و لكنه إحتفظ بصفاته النبيلة و التى جعلته مختلفاً عن غيره من أبناء و بنات جنسه و كفلت له إحترام كل من عرفه.
تكررت رحلاتى جيئة وذهاباً بين كندا و الشرق الاوسط و فى كل مرة أضطر لترك دلنجر وحده مع زملائى بالعمل . فى كل مرة أسافر و أتركه فى مكاتب الشركة أعود فأجده و قد بدت عليه إمارات المعاناة من الوحدة . صحيح أنه تخلص من بعض المشاكل الجسمانية و النفسية بعد الجراحة و لكنه مثل غيره من بنى جنسه يحتاج إلى من يعطف عليه و يؤنسه و يمسح على رأسه و ظهره .
لم يكن دلنجر ليقبل أن يأكل طعام المنزل أو فضلات مما نأكل. بدأت فى شراء علب الطعام الخاص به . فى البداية كنت احضر له علب طعام من لحم الدجاج أو اللحوم البقرية فكان يعافها و لا يأكلها مهما إشتد به الجوع . تبينت بعد فترة قصيرة انه لا يحب سوى منتجات الأسماك فصرت لا أقدم له سواها . و حتى علب لحوم الاسماك يجب أن تكون حذراً فى إنتقائها و لابد من تغييرها من وقت لآخر حتى لا يصيبه الملل. كما لاحظت أن هناك أنواعاً بعينها تلقى قبولاً لديه أكثر من غيرها فصرت أحضرها له.
أعود للمنزل فى نهاية اليوم ، و ما أن أدخل البيت حتى يقبل علىَ فى إهتمام و يتقافز بين أقدامى و يتابع حركاتى و ينظر إلي وهو يحدث صيحات متباينة أحتار فى تفسيرها . فى بداية الامر ظننت أنه ينتظر طعامه و يلح فى طلبه، فأقدمه له. ولكن على غير المتوقع لم يكن يسارع بالأكل و ينظر إلي إناء الطعام فى تردد ودون إهتمام . فإذا تحركت بعيداً سار ورائى تاركاً الطعام كما هو.. فإذا جلست قفز علي و أخذ يتمسح بى ثم يقف على صدرى موجهاً نظره إلى عينى و يبدأ فى الضغط على صدرى بإحدى قدميه الصغيرتين …ثم بالقدم الأخرى فى حركة تبادلية بين القدمين ثم و فى رفق يدفع برأسه فى وجهى دفعات متتالية .. كنت أشعر أنه يحاول عناقى و تقبيلى . كان ذلك مدهشاً حقاً. بدا لو أنه يريد أن يؤكد لى أن ما يجمعنا عاطفة و حب أكثر من أى شىء آخر.
أثناء فترات غيابى لم يقصر زملاء العمل فى محاولة توفير حاجيات دلنجر الأساسية من مأكل و مشرب و لكن كان من الصعب أن أطلب منهم أكثر من ذلك . حدثنى أحدهم أنه كلما غادر مكانه لمهمة أو عمل يعود فيجد “دلنجر” وقد راق له الجلوس في مقعده. حكى لى ذلك الزميل أنه كان يضطر لإزاحته ليجلس لكن دلنجر كان يتحرك فى ضيق بالغ و يحدث من الأصوات ما يؤكد إنزعاجه من ذلك التصرف المجافى لأصول اللياقة ..!
لم يعد ذلك الحال مقبولاً.
و بعد تفكير و تشاور مع زوجتى قررت أن أعد العدة لسفر دلنجر هو الآخر إلى بلد المهجر و العالم الجديد لعله يجد هناك ما يحتاجه من دفىء و حنان فى جو الأسرة التى ولد و نشأ فيها.
صحبته إلى العيادة البيطرية لأخذ اللقاحات و التحصينات اللازمة . إستخرجت له الشهادات الرسمية التى تثبت تطعيمه و تؤكد سلامته و خلوه من الامراض.
أعددت له قفصاً خاصاً لنقل الحيوانات الصغيرة . إشتريت له تذكرة السفر كمرافق لى . وضعته فى قفصه و ركبنا السيارة مع صديق أوصلنا إلى المطار. كان يصدر أصواتاً من أغرب ما سمعت ..هى نوع من التعبير عن الألم و الإحتجاج الشديد و طلب النجدة و الخلاص…صيحات قوية شعرت أنها تصدر من حبال صوتية خاصة تختلف عن تلك التى يستخدمها فى الظروف العادية ..و كانت مؤلمة. لم يكن يطيق تقييد حريته فى ذلك الحيز المحدود، و لم يكن عندى وسيلة لإقناعه بأنه علينا تحمل بعض المشاق فى سبيل الوصول إلى مكان سوف يكون بالتأكيد مناسباً أكثر لحياته .
ثلاث رحلات بالطائرة كان علينا أن نستقلها لنصل للمدينة الصغيرة التى نعيش فيها . و وصلنا فى نهاية المطاف و لقى دلنجر و أوراقه و شهاداته الطبية قبولاً حسنا من سلطات المطار الكندية . كان كل شىء نموذجياً . فحصوه فحصاً طبياً ظاهرياً سريعاً قبل أن يهنئونى بسلامة الوصول و يعلنون ترحيبهم به فى العالم الجديد.
ينتقل دلنجر بحذر لحياته الجديدة. تغيير المكان يصاحبه نوع من التوتر الشديد مهما حاولنا مؤانسته و التخفيف عنه. يقضى أيامه الأولى مختفياً تماماً عن الأنظار فى حالة فزع و خوف و هروب من كل شىء. بعد مرور أيام التوتر الأولى بدأ فى التعرف على المكان و ممارسة حياته العادية و إستعادة نشاطه و حيويته.
قضى دلنجر سنوات سعيدة مع زوجتى و أولادى و كان هو العضو الوحيد فى الاسرة الذى لم يغادر كندا منذ وصوله فى منتصف التسعينات.
فرض دلنجر إحترامه على الجميع و أحبه كل من إقترب منه و عرفه.
لم يحاول يوماً أن يسرق أو يخطف طعاماً مهما كان نوعه . كانت صينية السمك تبيت فى مكانها بالمطبخ آمنة مطمئنة لا خوف عليها من أى محاولة إعتداء .
نوع واحد من الطعام كانت تجتذبه رائحته فيقترب منه على إستحياء ويبدى رغبته فيه . التونة.
أحياناً يفاجئنا بالقفز على مائدة الطعام ونحن جالسين حولها و يتجول بين الأطباق فإذا و جد زيتوناً كان يحلو له أن يأخذ واحدة و يلعق ما عليها من زيت ثم يهبط بها إلى الأرض و يداعبها و يقذفها و يعدو ورائها كما لو كانت كرة و لا يأكلها .
فى المرات النادرة التى كان يقفز فيها على مائدة الطعام و يبحث عن زيتونته المفضلة ليلعب بها و يلعقها ، تحاول زوجتى أو أحد ابنائى إبعاده ، فيستدير و ينظر إلينا فى إستغراب و يموء فى أسى و كأنه يقول ” مالكم..هل أنا من يبعد عن مائدتكم بهذا الأسلوب … انا لا أسرق شيئاً… و لا يوجد هنا شىء يثير إهتمامى …إنى فقط أبحث عن زيتونتى و سأغادر فى هدوء”
يحلو له أن يلعق الماء من نفس الأكواب التى نشرب منها أو يقف على حافة حوض المياه و يشرب من الماء الدافق من الصنبور .
تمر السنوات و يكبر دلنجر و يصل عمره إلى قرابة الثمانية عشر عاماً . ذلك يعادل عمر إنسان فى الثمانين أو يزيد. بدأت تظهر عليه أعراض الشيخوخة و أمراضها. تؤكد لى زوجتى أن سمعه قد ضعف كثيراً بدليل أنه عندما يطلب شيئاً يحدث أصواتاً شديدة الإرتفاع بشكل ملحوظ.
فى الأشهر الأخيرة إحتجنا لزيارة الطبيب أكثر من مرة لعلاجه . فقد الكثير من حيويته و خفته عندما كان طفلاً صغيراً ثم شاباً رائعاً بعد ذلك.
أبدت الطبيبة تخوفها من ضعف فى وظائف كليتيه و أجرت له بعض الفحوص و التحاليل ووصفت له دواءاً لعلاج إلتهاب شديد أصاب لثته و أسنانه قبل أن تجرى له جراحة لإستئصال الأسنان التالفة. ساورها أيضاً القلق من أن يكون بصره قد ضعف و سألتنا هل يصطدم بالأشياء أثناء سيره أو ما شابه . الحمد لله ذلك لم يحدث حتى الآن. لقد كان من عام او إثنين فقط يقضى بعض ساعات نومه مسترخياً على حافة سور سلم داخلى فى المنزل فى توازن مثير للدهشة…
أجد صعوبة فى تقبل فكرة أنه صار مسناً لهذه الدرجة . يقضى دلنجر سنواته الأخيرة فى منزلنا محاطاً بكل رعاية و تكريم و الكل يتابع حالته الصحية و النفسية ويسأل عنه و ينتاب القلق كل أفراد الإسرة إذا ألم به عارض .
و مع ضعف الشيخوخة و أمراضها يواتيه احياناً شىء من الحيوية و النشاط فيقفز على صدر أحدنا و يقبله بطريقته الخاصة كما كان يفعل صغيراً، أو يجلس على ظهر مقعد زوجتى و يلعق شعرها كما أحب أن يفعل دائماً، ثم بعد قليل يذهب وينتحى جانباً ليرقد فى هدوء فى أحد الأماكن المفضلة لديه.
أتأمل صورة تجمعه هو و إخوته بعد أيام قليلة من ولادتهم و قد تكالبوا يرضعون من أمهم ، وعندما لا أستطيع التعرف عليه لتشابههم لا يجد إبنى أى صعوبة فى تحديد شخصيته من علامات فى ذيله. بدا لى ذلك معقولاً لأنه كما عرفناه دائماً كان يقف متاخراً عن باقى الإخوة و يكاد لا يصل لثدى أمه . ألم يكن ذلك ما جعلنا نعطف عليه و نتعلق به و نحترمه من البداية ..

5 عدد التعليقات على “القط النبيل”

  1. Ayman يعلق:

    excellent story ..amazing the bond that we can developed with other spices and they can develop with us.

  2. مدحت عسكر يعلق:

    قصة جميله تتضمن احاسيسا نبيله وقدرة ملحوظه علي الوصف الأدبي الدقيق .. لا شك ان أشرف عاشور لديه مقدرة أدبية قيمه

  3. حسن شكرى يعلق:

    قطعة أدبية متناسقة فى تسلسلها ويأخذ يديك فى كل كلمة تقرأها ليصلك الى نهايتها، وفى نهيتها تجد نفسك تنظر الى أول السطر وتعيد قراءتها مرة أخرى بإستيعاب اكبر وتتخيل الأبطال يتحركون امامك.

    شكرا يا أشرف

  4. سعيد الهلباوي يعلق:

    حبكه دراميه جيده والموضوع شيق

  5. محمد عبد الغنى يعلق:

    بلا شك انها قصة رومانسية وجميلة وتعبر عن احساس رفيع المستوى مع وصف تعبيرى دقيق ومعبر.

أشـرف عاشــــــور © 2024