تجارب و ذكريات
التدوينات فى هذه الصفحة لها طابع خاص ، فهى مرتبطة بشكل مباشر بتجارب شخصية و مواقف إنسانية تركت أثراً و اضحاً فى حياتى ، فسجلتها كما شعرت بها .
1- يوميات مسن
– جالس يفتح عينيه…قلما يفعل ذلك..كانه يقطع صلته بما حوله عامداً..وكأنه يضع حاجزاً بينه وبين الآخرين…ينقل بصره فيما حوله بنظرات زائغه ..واهنه
هل خطر شىء بباله ؟ يريد ان يسأل عن شىء أو أن يقول شيئاً..لا يقول اى شىء ! وبعد قليل يغمض عينيه ثانية ويسلم نفسه لشىء بين النوم واليقظه..أنه عالمه الخاص الذى لا ينفذ إليه أحد..أحاول ان اكلمه ولكنه لا يرد..هل يسمعنى ؟ لا يمكن ان أعرف .
– يتقلب فى فراشه..ورفع الغطاء ..سارعت إليه لأجده يحاول جاهدا أن يقوم..لا يمكنه أن يغادر الفراش معتمدا على نفسه…نفس الموقف يتكرر مرارا …الا يعلم ذلك ؟ نظراته بائسه راجيه أو متوسله …”ما ذا تريد يا أبى ؟” سألته . لا يجيب . ألح فى السؤال ، فيغمغم شيئاً أفهم منه انه يريد التبول .
– أودعه قبل السفر ..أقبل وجنته ورأسه و أهمس فى أذنه ..إننى مسافر يا أبتاه ..نظرته متسائلة كمن لا يفهم لماذا أو كمن يبحث عن فكرة يجد صعوبة فى النطق بها . أستطرد فى الإيضاح أنى مسافر للعمل و… و إن شاء الله أعود قريباً .. بدأ يتكلم …يعرض علىّ المساعدة …؟! إنت إبنى و إذا كنت محتاج أى شىء …إلخ. شكرته ودعوت له و قبلت يده ورأسه و الألم يعتصر قلبى ..لا زال يتصرف وقتما كان فى عافيته …الكرم والعطاء والبذل بلا حدود من أجلنا…!
– جئت لزيارته . يجلس فى غرفته ومعه ذلك الشاب المكلف بالسهر عليه و مساعدته. تدهورت ذاكرته كثيراً فى الأعوام الأخيرة و لم يعد قادراً ان يقول شيئاً مفهوماً إلا فيما ندر وفقط عندما تنتابه تلك الومضات من الحيوية الآخذة فى التباعد. وقفت إلى جانبه …أقبله…لا يوجد أى دليل على انه يتعرف علىَ . يحاول الوقوف . أساعده على القيام ..و يقف لحظات يتمالك نفسه و يستريح بعد المجهود الذى بذله فى عملية الوقوف. يعتمد على ذراعى و يبدأ السير . لا يكاد يرفع أقدامه و إنما يدفعها فى حركة زاحفة على الأرض. حاولت كثيراً فى مرات سابقة أن أعطيه عصاة يمسكها فى يده الاخرى لتعطيه نوعاً من الثقة و التوازن فى السير، ولاحظت انه يستفيد منها ، ولكن لا أحد يشاركنى ذلك الإعتقاد ، فسرعان ما تستبعد العصاة و يفضلون أن يجعلوه معتمداً كلية على الإستناد عليهم بل أحياناً يكادون يحملونه – جزئياً – بشكل يبدو لى مزعجاً . الكثير من الأشياء يفعلونها –ربما بنية حسنة- ولكنها تفقده تدريجياً إمكانية الإعتماد على النفس . هو سيفقد تلك القدرة تدريجياً فى كل الأحوال ، وربما هكذا يفكر البعض.
يظهر شيئاً من النشاط و الحيوية و يقطع الطريق من غرفة نومه ماراً بالردهة المؤدية إلى بهو المدخل ثم يستمر فى السير – بأقل مساعدة ممكنة – إلى غرفة الطعام . لا حظت انه يحلو له عادة التوقف فى تلك المنطقة بين غرفتى الطعام و الإستقبال ويتأمل ما حوله كمن سافرإلى منطقة جديدة نزل بها للمرة الاولى و يرغب فى إكتشافها و سبر أغوارها. أتركه يفعل ما يريد …ويظل واقفاً يتأمل ويتلفت حوله فى بطىء . ينظر إلى و يطلق زفرة . لا أدفعه لعمل أى شىء و أبقى واقفاً بجانبه فى صمت. فجأة و بدون أن أتوقع يميل على ويطبع قبلة على جبينى ! آه يا حبيبى ..تلك جائزة لم أكن اتوقعها .
2 .الــــــوفـــــاة
نزلت مصر بعد ما وصلتنى المعلومات عن الحالة المتدهورة . وصلت البيت فى المساء ، وجدته فى حالة مؤلمة جداً لن أنساها. كان يعانى بشدة من إلتهاب رئوى حاد، و يتنفس بصعوبة ، و غير مدرك لأى شىء حوله. التغذية تتم عن طريق أنبوب يدخل من أنفه للمعدة، يدخلون له فيه طعاماً قريب من حالة السيولة يضخ عن طريق حقنة بلاستيكية كبيرة تملأ بمحلول الطعام و تضغط لدفع الطعام إلى داخل معدته.
كان يشهق شهقات متوالية لأخذ نفسه، و الذى يبدو أنه كان يعتمد فيه على فمه أكثر من أنفه ، ولذا بقى فمه مفتوحاً بشكل مستمر … صوت صدره كان يدل على أن مجرى التنفس مزدحم بالمخاط و الإفرازات التى لم يكن يستطيع التخلص منها فهى تتراكم فى الجهاز التنفسى .
كان المشهد محزناً للغاية ، و تتقطع له نياط القلوب.
جاءت الممرضة التى تقوم بعملية سحب السوائل و المخاط من صدره عن طريق أنبوب من فمه متصل بجهاز شفط خارجى . إسمها أمينة ، و هى فتاة صغيرة السن و قليلة الحجم ، و لكنها فى غاية المهارة ، و الدقة . قامت بعملها بتمكن و إقتدار ، و ما أن إنتهت من شفط السوائل من رئتيه ، شرعت فى تنظيف أسنانه، بعناية ، ويبدو أن وجود إصبعها داخل فمه ، و بالرغم من حذرها ، قد أدى إلى رد فعل لا إرادى منه… عضها بقوة آلمتها..ولكن يبدو أنها تتوقع ذلك و أن تلك لم تكن المرة الأولى! كشفت أجزاء جسمه التى غطتها قرح الفراش و التى كان شكلها أيضاً مؤلم جداً خاصة تلك القرحة الكبيرة فى أسفل الظهر فوق منطقة الشرج مباشرة، وقامت بتنظيفها و تطهيرها …إلخ . بعد إنتهائها من عملها جعلته ينام على جانبه ، و عندها هدأت أنفاسه كثيراً و بدا أنه مستريح فى ذلك الوضع بشكل أفضل كثيراً من حالته وهو مستلقى على ظهره.
طلبت أمينة الممرضة أن نقلبه على جانبيه و لا نتركه على ظهره إلا فترات بسيطة ، و أكدت أن هذا أفضل من جميع النواحى خاصة لتجنب تزايد قرح الفراش الموجودة الحالية و حتى لا تسوء حالتها أكثر. شرحت أمينة للشاب الذى يقضى الليل معه كيف يتعامل مع جسده بالشكل الصحيح ، و كيف يغير و ضعه و يقلبه على جانبه دون أن يلحق به الأذى. ساد جو من الراحة النفسيىة النسبية بعد هدوء أنفاسه بعض الشىء فى وضع النوم الجانبى ، و بالرغم من أن الحالة العامة مزعجة للغاية إلا أن الإحساس بأنه على الأقل يتنفس بشكل أفضل ، كان شيئاً إيجابياً.
شعرت بأن أمينة لا بد أن تكون بجواره طول الوقت ، أو على الأقل لفترات طويلة بقدر الإمكان و ليس مجرد زيارتين فى اليوم كما هو الوضع الحالى. عرضت عليها أن تأخذ إجازة 3 أو 4 أيام و تتفرغ للعمل معنا ، و أكدت لها أن مجهودها سيكافأ بشكل مجزى جداً. أعطيتها مبلغاً كبيراً، قبلته بصعوبة ، ووعدت بأنها ستحاول ترتيب أمورها.
بقى الشاب المكلف بعنايته جالساً على الكرسى المجاور لسريره بعد إنصراف الممرضة . دخلت عليه مرتين ، وتساءلت إن كان يجب تقليبه على ظهره أو الجانب الآخر ، و لكنه اقنعنى فى أدب أنه يراه هادئاً و يغط فى نوم عميق على جانبه و يرى أننا يجب ألا نعكر عليه صفو تلك الراحة التى يحتاجها و ربما لم ينالها منذ عدة أيام . شعرت بأنه على حق ، و قلت طالما ينام فى هدوء فلندعه ينعم بذلك و ربما قسط من الراحة و السكينة يساعد على تحسن حالته و تغلبه على أزمته الصحية المستعصية.
جاء أخى ليبلغنى – فى نبرة من تحقق له شيئاً بعد التعب- أنه و لأول مرة منذ عدة ايام كانت حرارة جسمه طبيعية ، 36.5 ، وهى نفس درجة الحرارة الطبيعية لجسمى أنا شخصياً.
ساد الجو شىء من الراحة ولاح فى الأفق بصيص من أمل .
صباح اليوم التالى
قضيت الليلة عند أخى. حوالى الساعة 10 صباحاً ، إستيقظنا على قرع شديد على باب شقته. كانت سلوى تلك الفتاة التى تستلم رعايته فى الصباح جاءت وهى تبكى فى فزع. قام أخى منزعجاً و وهرول مسرعاً لغرفته ، و لحقت به وكان من الواضح أنه قد حدث أمر جلل.
كان جسده ممداً على السرير بلا حراك . لم يعد يشهق تلك الشهقات المتوالية طلباً للهواء، وكان فمه مفتوحاً (بنفس الصورة التى كان عليها وهو يصارع لدخول الهواء) . لن أنسى هذه الصورة أبداً. كان جسده لازال دافئاً كما لو كانت الحياة لازالت فيه. ولكن عدا ذلك إختفت كل مظاهر الحياة الأخرى.
لقد إنتهت المعركة و خسرناها ..وكسبتها السماء كما هو محتوم.
بعد قليل ، وصلت أمينة الممرضة، ودخلت علينا فى الغرفة و تبادلت معنا نظرات الذهول. تقدمت بهدوء منه و تحسست نبضه ، و حاولت أن تغلق فمه ، ولكنها لم تنجح. قبل ان تصل كنت أنا قد سحبت ذلك الأنبوب الذى يمتد من خلال أنفه إلى معدته و كانوا يستخدمونه لتغذيته. قامت هى بنزع الإبرة التى كانت مثبتة فى احد اوردة يده لحقنه بالأدوية العلاجية .
لم أكن أدرى ساعتها ماذا على أن أفعل بل لم يكن هناك عندى شعور محدد يمكن أن أصفه! ربما كان الإحساس الرئيسى هو الإحساس بأن هناك مسئولية ملقاة على عاتقى ، و أننا لا يمكن أن نستسلم للمشاعر بقدر ما انه علينا ان نعمل و ننجز ما يجب إنجازه فى تلك الظروف.
بدأت أمى تدخل فى الصورة. لا أدرى كيف بدأ المشهد . كانت تتكلم بهدوء نسبى ، و قالت شيئاً مثل ” ما متش …” أو شىء من هذا القبيل . فى مرحلة لاحقة أعادت العبارة و قالت ” انتو اللى عاوزين تموتوه ..عشان تخلصوا منه ” ! آه يا أمى الرحمة .
تذكرت.. لقد دخلت بينما كانت أمينة تقوم ببعض الأشياء، و كانت بشكل أو بآخر تحاول إبعادها . و طلبت منها عدم التدخل حتى تستطيع الممرضة أن تقوم بعملها . غطيت أنا وجهه ، و لكنها صاحت غاضبة ” لا تغطى وجهه …هو عايش …” كانت المواقف متداخلة ، وبعض اللحظات ساد شىء من الهرج و الفوضى . أخى يدخل و يحاول أن يفعل أشياء لا أذكرها ..ثم بعد هذا يحاول أن يقرأ قرآناً بصوت مسموع…أولاده طه و ياسين يدخلون و يخرجون …لا أذكر ما الذى كان يفعله و هو ينحنى على جسده و أمى من خلفه تنهال ضرباً على ظهره بكلتا يديها مرددة “ما متش ..ما متش… ما متش “
إنفعلت فى لحظة على أمى و حملتها حملاً إلى خارج الغرفة ، إلى غرفتها المجاورة. و حاولت أن أضمها و أهدىء من روعها ، بلا جدوى. لابد أن روحه كانت قلقة و حزينة فى تلك الساعة …لم يكن يحب الصياح و الضجيج . عذرا يا حبيبى … نحن غير جديرين بروحك الطاهرة.