بيتنا بين المسجد و الكنيسة

غير مصنف

أبدأ بتوضيح أن عنوان هذا المقال لا يجب أن يفهم على أنه تعبير أدبى مثل ” التدين بين الإفراط و التفريط”… أو “المعارضة بين النقد و التجريح”….بل المقصود المعنى الحسى للكلمات، بمعنى أن بيتناً (وهو فى الحقيقة منزل أبواى)، يقع فى مكان يتوسط مسجداً و كنيسة.

المسجد ملاصق لبيت الأسرة فى مدينة نصر. لايفصله عن البيت سوى ممر مشاة ضيق.  و عبر الشارع مقابل البيت مباشرة توجد الكنيسة ، و أظنها أقيمت فى مرحلة سابقة على بناء المسجد. كان من الواضح أن الكنيسة – وهى كنيسة ضخمة و ملحق بها مبنى خدمات كبير من عدة طوابق – بُنيت على أسس سليمة ورُخصت مبانيها من الجهات المسئولة ، وهو ما يوحى به كل شىء فى تصميمها. كذلك كان من الواضح أن تمويل عمليات البناء لم يكن يعانى مشاكل كبيرة.

أما المسجد، وبالرغم من ضخامته، فهناك مظاهر توحى بأنه قد أقيم بطريقة عشوائية .  قيل أنه بنى على أرض كان من المفروض أن تكون حديقة ، و جاءت جمعية إسلامية ووضعت يدها عليها بالقوة  وشرعت فى بنائه بأموال التبرعات . ويبدو لى و الله أعلم أن تلك الجمعية حرصت على بناء المسجد فى ذلك المكان نكاية فى الكنيسة و تحدياً لها!

 إستمرت عملية بناء المسجد من أواخر السبعينات و لم تنتهى أبداً. ما حدث أنه منذ ما يقرب من عشر سنوات توقف البناء ، وبقى المبنى من الخارج ينقصه معظم التشطيبات ، والتى أخذت تستكمل ببطء شديد وربما تكون مازالت جارية حتى يومنا هذا. و مما زاد الطين بلة أن القائمين على المسجد كان أوقعهم حظهم العاثر– وبسبب الجهل –  فى مصمم معمارى شديد الحمق، وضع تصميماً مخروطياً غريباً ومعقداً للبناء. و إمعاناً فى التفلسف، و دون النظرلأن المسجد يبنى من قروش صندوق التبرعات المحدودة، حرص المصمم التعس على تزويد البناء بأربعة مآذن، شاهقة الإرتفاع بدلاً من مئذنة واحدة بسيطة !

 كان المسجد و الذى أطلق عليه “مسجد الرحمة” ، مصدر “عذاب” مستمر لنا، نحن المجاورين له.

رُكبت على مستوى معين من سطح المبنى مكبرات صوت عملاقة و شديدة الوطأة ، يكاد مستواها يماثل مستوى الدور الخامس الذى سكنه والداى. وتوزعت المكبرات لتبث صوتها المرعب فى كل الإتجاهات و خاصة فى إتجاه الكنيسة ، وهو إتجاه بيتنا لسوء الحظ. وعندما حاولت ذات مرة أن أطلب من أحد العاملين فيه  تخفيض صوت المكبرات ، قابل طلبى بإبتسامة بلهاء، إرتسمت على وجهه الذى يوحى بأنه غير متعلم و غير مستعد لأخذ طلبى على محمل الجد.

مرة أخرى ، وكنا فى رمضان ، و حوالى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، بدأت صلاة التهجد ، و الإمام يقرأ فى الركعة لمدة طويلة…ربما 20 دقيقة ، و كل شىء بأعلى صوت مستخدماً نفس المكبرات المستخدمة فى الآذان. كدت أجن فقد كنت محتاجاً ليلتها للنوم . إتصلت بشرطة النجدة و أبلغت عن المسجد و ما يسببه من إزعاج شديد . كانت المفاجأة سعيدة للغاية . أخذت شرطة النجدة بلاغى بجدية ، و كان من الواضح انهم أرسلوا شرطياً للمسجد نجح فى إيقاف ذلك النشاط الإجرامى. فقد خمدت الأصوات بعد الركعة الأولى و لم تعد تسمع إلا همسا.

كنا سعداء جداً بوجود الكنيسة أمامنا . كان أبى – رحمة الله عليه – كلما وقف فى الشرفة يردد أنه لولا الكنيسة لكان الجانب المقابل قد تحول إلى أبراج سكنية مخيفة تعج بالسكان و لمنعوا عنا الشمس و الهواء و أفسدوا فى الأرض !

كان كل شىء فى الكنيسة يبدو منضبطاً والأنشطة فيها تتم بهدوء . المبانى يحيط بها سور جميل، و الرصيف معتنى بنظافته ، و المبانى شكلها مريح و متسقة مع بعضها البعض، كما لاحظت وجود مساحة كبيرة فى الداخل بها ملاعب رياضية للترفيه عن الشباب و الأطفال . لا بأس طالما لا يوجد ما يقلق أو يعكر صفو الحياة فى المنطقة.  

من جهة أخرى،  بدا و كأن أحداً فى المسجد لم يكن يعنيه نظافة الفناء المحيط به أو المنطقة المجاورة له من أرصفة و خلافه . حضرت صلاة الجمعة فيه عدة مرات ، خاصة مع الوالد – عندما كان لازال بصحة تمكنه من أداء تلك الشعيرة- و إستمعت للخطبة . بقدر ما أذكر كانت كلاماً غثاً و إن دلت على  شىء فإنما كانت تدل على مستوى الجهل و السطحية المنتشرة بين القائمين على تلك المساجد العشوائية. أظن أن أكرم – أخى- قاطع هذا المسجد من زمن و فضل عليه صلاة  تقام فى وسط شارع قريب !

من المحزن أن ذلك المظهر الهادىء و البرىء لكنيسة “العذراء” لم يبق طويلاً على حاله هو أيضاً.

فى البداية كانت تقام مراسم الزفاف أو الأفراح على فترات متباعدة. ويوم الفرح تحدث أزمة مرورية فى الشارع ، حيث أن المبدأ فى معظم الاماكن العامة فى مصرنا الحبيبة ، أن مشكلة وقوف السيارات ليست من المسائل التى تعنى القائمين على ذلك المكان .  أى أن على أصحاب السيارات أن “يدبروا حالهم” كما يقول إخواننا أهل الشام. ينتهى الأمر بأن تقف مئات السيارات، التى تهبط على الشارع فجأة، فى أى مكان متاح فى الشارع الرئيسى و الشوراع الجانبية وفوق الأرصفة وفى أماكن وقوف أصحاب العمارات المحيطة…إلخ. ومن مراسم الفرح، و حتى تكتمل سعادة العروسين و عائلتيهما، فلابد أن تطوف بعض السيارات فى الشارع و تطلق أبواقها بشكل منتظم و متكرر كما هو شائع  فى بلدنا المعطاء، وحتى يتأكد أصحاب الفرح أن من لا يشاركونهم إحتفالهم لن يفوتهم أن يدعون الله بأن يصب نقمته علي العروسين و ذويهم و ذريتهم بما أقضوا من مضاجعهم .

ومهما يكن من أمر، فإن ذلك كان محتملاً فى البداية عندما كانت تلك الأفراح تتم على فترات متباعدة. مرة كل أسبوع أو مرتين فى الأسبوع على الأكثر.   

ولكن فى السنوات الأخيرة أصبحت الأفراح تقام بشكل شبه يومى …كل مساء تقريباً.

طبعاً إزعاج و إستفزاز من الصعب إحتماله لساكنى البيوت التى رمت بهم المقادير ليسكنوا فى ذلك المكان.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يبدو أن القائمين على الكنيسة قد نجحوا أخيراً فى تركيب جرس ضخم فى برجها، ووجدوا فرصة ملائمة فى فترة الصباح ، حين يهدأ نشاط المسجد، أن يقرعوه  لمدة غير قصيرة. كل يوم.  

أما الظاهرة الملفتة حقاً ، فكانت ذلك الشىء العجيب الذى فوجئت به و قد أخذ يضيىء يوماً فى المساء. لا أعلم بالضبط متى بدأ هذا الشىء و الذى لا أدرى كيف أصفه ! قامت الكنيسة بتركيب نوع من الألعاب الضوئية أعلى برج الكنيسة يمثل – على ما يبدو – العذراء وهى تتحرك بشكل ما و ربما تحمل طفلها – السيد المسيح الوليد- و أشياء تتحرك حولها …ملاك مجنح أو ما شابه ! الفكرة غريبة و لم أرى مثيلاً لها من قبل . إذا لم تكن تعرف أن هذه كنيسة و لم تدقق فى التفاصيل، فربما تظن أنه إعلان عن مشروب الكوكاكولا  أو ملهى ليلى !

تساءلت بينى و بين نفسى عن الهدف من هذه “الزغللة” الضوئية فى أعالى البرج ، و هل هذا يدل على حس دينى أو يتناسب مع الوقار المفترض فى بيت من بيوت الله ؟ هل هذه المناظر الشبيهة بلاس فيجاس يفترض أنها ستساعد على تقوية عزيمة المؤمنين و تشد أزرهم ؟   أم أنها محاولة من الكنيسة لإستفزاز المسلمين و المسجد المجاور بتلك الأضواء المبهرة و الصور المتحركة ؟

عندما كنت أزور أمى فى الآونة الأخيرة كانت المسكينة تشكو بمرارة من الضجيج و الإزعاج  الذى يتبادل المؤمنون فى كلا من المسجد و الكنيسة إحداثه، فى منافسة حامية تدعو للإعجاب !

لم أرى أن أى من المسجد أو الكنيسة قد ساعد على إشاعة الحب و التآلف بين الناس أو ساعد فى إرساء قيم حسن الجوار و الإحسان و الرحمة – على الأقل بالجيران التعساء- بل رأيت كليهما يسبب مشكلة فى المنطقة المحيطة به و يسبب الكثير من الأذى لمن حوله بقصد أو بغير قصد.

ما برحت المباراة تدوررحاها، بين “مسجد الرحمة” و “كنيسة العذراء” ، و تتنوع أشكال و مصادر الضجيج و التلوث،  ويبدو أن كلا الفريقين  يعتقد أنه يخدم الرب ، و أنه كلما علا صوته  وزاد ضجيجه، إزدادت فرصه فى  ضمان الحصول على مكان  ممتاز فى جنات الفردوس ،  وربما ينجح – بقليل من الحظ – فى إزاحة الآخر إلى نار جهنم و بئس المصير.

 الشاهد أن أمى المسكينة، والتى تعانى  ليل نهار من الإثنين،  تصب لعناتها يومياً وبإنتظام على كليهما، وهو ما قد يتعارض تماماً مع مجهودات العاملين فى المنشأتين و طموحاتهما.  

 

تم إغلاق التعليقات.

أشـرف عاشــــــور © 2024