منذ ما يقرب من ستين عاماً ، وبعد فترة قصيرة من قيام ثورة يوليو ، ألغيت الألقاب، لتعطى الشعب المصرى إحساساً بالمساواة ، و رفع قائدها ، جمال عبد الناصر، شعار “إرفع رأسك يا أخى ، قد مضى عهد الإستعباد” وهو ما جعل جموع المصريين تشتعل بالحماسة و الأمل فى بزوغ فجر جديد من الحرية و العدالة الإجتماعية بعد أن عاشوا دهوراً يرزحون تحت ظلم الأجانب و الغزاة ..
فرح المصريون فرحة غامرة عندما ألغيت الألقاب التى كانت تؤسس و تشرع لمنظومة قيم السادة و العبيد و ترسم حدوداً فاصلة بين أقلية تنعم بحياة الوفرة و النعيم ، و أخرى – وهى السواد الأعظم – تعيش حياة البؤس و الشقاء، تكاد لا تجد قوت يومها ، و تنتظر الإحسان من ذوى القلوب الرحيمة من خلال مشاريع مقاومة الحفاء ة والعراء و الجوع.
فئة صغيرة منهم نالت حظاً من التعليم –الدينى أو المدنى – وهؤلاء فُتحت لهم كوة صغيرة نفذوا منه للعمل فى وظائف الحكومة وبعض الأنشطة الخاصة.
يكفى أن ترتدى قميصاً و بنطلوناً و حذاءاً ، فتكون من الأفندية. لم يكن هذا يعنى أن تكون إنساناً محترماً تتمتع بكل حقوق المواطنة ، ولكن كان الأفندى هو درجة فوق درجة العبودية الكاملة التى يعيشها الفلاح، و لكنها لم تطاول درجة السادة المحترمين وذوى الوجاهة .
تجىء بعد ذلك طبقات تحمل الألقاب الحقيقية …البكوات أو بالعامية البهوات . وهؤلاء يحصلون على تلك الألقاب بحكم المناصب العالية التى يرقون إليها ، أو يُنعم عليهم بتلك الألقاب من ملك البلاد. وكثيراً ما كان لقب البك او البيه (كما ينطقه العامة) يُنادى به الوجهاء من قبل صغار القوم و البسطاء على سبيل التكريم و الإحترام. ثم يجىء لقب “الباشا” الشهير، وهو قمة الألقاب و لم يكن يتمتع به إلا حفنة قليلة من علية القوم نالوا ذلك اللقب بحكم المناصب الرفيعة التى شغلوها ، كرؤساء الوزارات و رؤساء الأحزاب ولواءات الجيش، كذلك ناله بعض كبار الأعيان و الإقطاعيين و بما أنعمه عليهم الملك فى ظروف معينة وكان منها شراء اللقب من “جلالته” .
كذلك كانت هناك ألقاب المناصب أو الرتب مثل أصحاب السعادة(سفراء و كبار رجال الدولة) و أصحاب المعالى (الوزراء) و أصحاب السمو (الأمراء) و غيرها من الألقاب والرتب التى تكرس الفوارق و التميز و إضفاء صفات العظمة و الفخامة و الوجاهة على من يحظون بها.
وقد ساد فى السنوات الأخيرة إستخدام لقب “معالى الوزير” . ذلك اللقب العجيب ، و الذى أعدنا إكتشافه بعد دهر وأضحى من الألقاب شبه الرسمية فى معظم وسائل الإعلام .
وبالأمس القريب بلغت بى الدهشة مداها عندما كانت مذيعة أحد البرامج اليومية الشهيرة، وهى سيدة نابهة ولوذعية، تجرى حديثاً مع رئيس وزراء مصر فإذا بها تخاطبه بـ “دولة رئيس الوزراء” !
قد أفهم شيوع لقب باشا بتلك الصورة الهزلية التى يستخدم بها حالياً فى مصر، على أنه أحد مظاهر عشوائية اللغة و الألفاظ، وهو ما ينسجم تماماً مع الجو العام السائد. ولكن عندما تكون تلك السيدة تجرى حديثاً مع رئيس الوزراء و تخاطبه بذلك التعبير البهلوانى… “دولة رئيس الوزراء” ، و الذى يبدو أنها قد إختارته بعناية، فذلك أمر عجيب حقاً. ما يضيف إلى طرافة الموضوع أن “دولته” بدا و قد طاب له ذلك اللقب الفخيم ، فلم يحاول أن يثنيها عن إستخدامه !
يبدو لى أنه، على مدى السنوات الماضية، كان هناك تناسباً عكسياً بين قيمة المسئولين و الوزراء فى مصرنا و بين ما يُخلع عليهم من ألقاب و نعوت.
فكلما هبطت قيمة المنصب و فقد هيبته ، كلما إنتفخت الألقاب وعظُمت. فالملاحظ أن كثيراً من المناصب الكبرى و الرفيعة قد فقدت الكثير من هيبتها و رونقهاعلى مدى الخمسين عاماً الماضية ، ففى فترة الخمسينات و الستينات كان لقب السيد هو الوحيد المستخدم لأى مسئول من رئيس الجمهورية لأصغر الموظفين. ثم بدأت الألقاب تزحف رويداً رويداً و بالتدريج على مفردات الخطاب حتى وصل الأمر إلى ما كان من أمر تلك المذيعة التى قررت أن تبادر و تخلع لقب “دولة الرئيس” على رئيس الوزراء.
يا قوم ، ماذا بكم ؟ ما الداعى لهذا ؟ بصرف النظر عن حب ثورة يوليو أو كراهيتها ، ألا تحبون أن ترفعوا رؤوسكم و تخاطبوا بعضكم البعض مخاطبة السادة لبعضهم ، و ليس خطاب العبد لسيده ؟
شاع فى السنوات الاخيرة أيضاً نوع من إستخدام تعبير “حضرتك” خارج السياق الأصلى الذى درجنا قديماً على إستخدامه. فنجد أحدهم ،مثلاً ،
يقول ” …ما هو حضرتك، إحنا بنعمل كل شىء نقدر عليه..”
أو يقول آخر ” حضرتك، إحنا عايزين ناكل عيش…”
وهكذا تدخل تلك المفردة بين مقاطع الكلمات و الجمل دون سبب مفهوم ولا تؤدى أى وظيفة لها معنى. والحقيقة إن هذا الإستخدام لا يوجد له مثيل فى اللغات الأخرى إلا فى حالة التخاطب مع الملوك و الأمراء مع إستبدال لفظة حضرتك بلفظة جلالتك أو سموك ( your majesty …your highness ) فى تلك الحالة فقط أستخدم لفظ التعظيم فى بداية الكلام كما لو أنه من غير المناسب أن توجه للملك أو الأمير الخطاب بدون أن تفتتحه بالتفخيم أو التعظيم.
لقد خاطب الصحابة سيد البشر فى كثير من الروايات بإسمه المجرد مباشرة فقالوا له “يا محمد “… و”يا أبا القاسم” ..وعندما أرادوا تأكيد إيمانهم بنبوته و رسالته قالوا له ” يا نبى الله” أو “يا رسول الله” وعندما إنتقل رسول الله إلى جوار ربه ، قام أبو بكر يؤذن فى الناس ” من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت” …حتى فى ذلك الموقف الرهيب و الجليل لم يقل رضى الله عنه ” لقد مات صاحب العصمة محمد…” (وهو المعصوم) أو مات “حضرة النبى” مثلاً !
بل أن نص التشهد الذى نردده فى كل صلاة لا يضفى على الرسول(صلعم) أية ألقاب بل يذكره بإسمه المجرد ” اللهم صلى على محمد و على آل محمد…”
لماذا لا نتأسى بالأمريكان و الخواجات الذين نحبهم من أعماق قلوبنا ونخلص كل الإخلاص فى تقليد ما أمكن من عاداتهم و تقاليدهم و نتخذهم قدوة ، حتى أننا أصبحنا نحتفل بالفالنتين و الهالووين و أعياداً ما أنزل الله بها من سلطان . فنلتبعهم أيضاً فى العادات الطيبة ومنها البساطة فى أسلوب التخاطب حتى مع كبار القوم من الوزراء و كبار المسئولين …إلخ.
فى أمريكا و أوروبا ، يتعامل الناس مع بعضهم بإستخدام أسمائهم الأولى فى أغلب الأحوال ، و أقصى ما يضاف على الإسم هو تعبير ” مستر”(وهو المقابل لـ “سيد” ) فى الحالات التى يكون فيها الخطاب رسمياُ بشكل واضح أو المخاطب فيها رئيس الجمهورية مثلاً . لم نسمع تعبيرات مثل سعادتك أو معاليك وما إلى ذلك بإستثناء عند مخاطبة أفراد العائلات الملكية فى ملكيات أوروبا.
هل من المعقول أن مستوى التهذيب قد زاد وطفح فى بلدنا حتى أن الناس لم تعد تستيغ لقباً بسيطاُ مثل “السيد” الذى كان هو لقب أى إنسان ، كبر أو صغر، من أوائل الخمسينات و حتى عهد قريب ؟ وهل أن يُخاطب المسئول بإعتباره “جناباً ” والوزير بإعتباره “معاليا” و رئيس الوزراء بإعتباره “دولة” ، فإن ذلك يمكن إعتباره خطوة فى الإتجاه الصحيح الذى يؤدى إلى عودة الأمور إلى نصابها ؟
هل هو خليط غير متجانس من التزلف و النفاق و العشوائية ؟ أم أنه الحنين إلى عهد العبودية ؟